• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

من فضل القرآن وهدايته

أ. عبدالمنعم أحمد تعيلب

من فضل القرآن وهدايته
◄القرآن الحكيم كلام الله الخلاّق العليم، فهو إذن يهدي إلى الحق والرشد، والسعادة والخير، ويبرئ النفوس من عللها وأسقامها، وهكذا أراد الله جلّ وعلاه: (.. قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ...) (المائدة/ 15-16).   -        شفاء ورحمة للمؤمنين: يقول سبحانه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء/ 82). وما علا شأن العرب الأوّلين إلّا حين استمسكوا بمنهاجه فأحياهم من موات، وجمعهم بعد شتات. ولقد جاء الكتاب العزيز يبصر بالخير، وينفر عن الباطل والشر، ويحل الطيبات ويحرم الخبائث، ويوصي بالاستقامة على منهاج توحيد الله تعالى وتنزيهه، وإعمال الفكر، والتدبر والتأمل في كل ما خلق ربنا، والإستمساك بشريعته الحنيفية التي لا تزيغ ولا تعوجّ، فهو إذن روح وحياة، والفرق ما بين الاستجابة له وبين تنكب طريقه كالفرق ما بين الوجود والعدم. يقول الله وهو أصدق القائلين: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا...) (الأنعام/ 122). وإذا هجره الناس أو أعرضوا عنه ذهب ريحهم، وضل سعيهم في عاجلهم وآجلهم: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه/ 124-126). نزل الله القرآن لنتدبره ونقتفي أثره، يقول الله سبحانه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) (ص/ 29)، ويقول عزّ شأنه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (إبراهيم/ 1).   -        الالتزام بأحكام القرآن: وهكذا تلقاه النبي (ص)، والسلف الصالح فقالوا: كنا إذا حفظنا عشر آيات من كتاب الله لم نجاوزهنّ حتى نعلمهنّ ونعمل بهن – قالوا – فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. ولقد عهد الله إلى رسوله (ص) – كما هو خطاب لنا في شخصه (ص) أن نحتكم إليه: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) (النساء/ 105). (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) (المائدة/ 49). (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) (الرعد/ 37). (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة/ 50). هذا يسير من كثير في فضل القرآن. أما عن هداه وتزكيته، وسلطانه وأثره على النفوس، فإن له لفعلاً في كل قلب واع، مسلماً كان المتدبر أو مشركاً أو كتابياً. ولقد هدى الله تعالى نبيه وخاتم رسله بالقرآن العزيز وزكى به نفسه وحسّه، وظاهره وباطنه، وحبب إليه – الاصطباغ بصبغته والاستمساك بعروته حبا؟ً لا يدانيه حب، وبهذا رفع الله سبحانه ذكر نبيه في محكم كتابه فقال جلّ شأنه: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) (المزمل/ 20). وبشره بالعز والتأييد مقترنين بقيامه (ص) بآيات الذكر الحكيم: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ) (الشعراء/ 217-218). ويقرأ صلوات الله تعالى عليه قراءة المتبصر المتدبر، ما يمر بآية فيها وعد إلا سأل الله تعالى الجنة، وما قرأ آية فيها تسبيح إلا سبّح، وما يتلو آية فيها ذكر العذاب إلا استعاذ بالله من النار، وما يأتيه من ربه أمر إلا عظمه حتى ليقشعر بدنه، ويشيب شعره إشفاقاً من هيبة الملك الكبير تبارك وتعالى. وفي المروي عنه (ص) – وقد قال له بعض أصحابه رضوان الله عليهم – نراك قد شبت، يريدون: أسرع إليك الشيب. فيقول: "شيبتني هود وأخواتها" يعني سورة هود التي جاء فيها قول الله تبارك اسمه: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود/ 112)، وأخواتها من نحو سورة الحاقة وفي خواتيمها الآيات المباركات: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (الحاقة/ 44-47). وروى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله (ص): "اقرأ عليَّ". قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟. قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيري". قال: فقرأت "النساء" حتى إذا بلغت: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) (النساء/ 41)، قال لي: "كفَّ" أو "أمسك" فرأيت عينيه تذرفان. كما زكّى الله بكتابه أنفس المؤمنين، وشهد أنّ الصحب الكرام تجافت جنوبهم عن المضاجع يتلون آياته الساعات الطوال: (أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) (المزمل/ 20)، وأبقاها لهم لسان صدق فقال وهو أصدق القائلين: (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذاريات/ 17). وتلقوه تلقي التقديس والاتباع: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ) (الزمر/ 23)، وسنة الله في الدين اجتباهم من قبل ومن بعد: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم/ 58)، (.. فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ) (الزمر/ 17-18). وحتى أهل الشرك يأبى الله إلّا أن يجعل للقرآن عليهم سلطاناً، ومن أجل ذلك شرع لنا في كتابه الكريم أن نسمعهم شيئاً منه كلما تهيأت نفوسهم: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة/ 6). وقصة خشوع عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة لجلال الكتاب العزيز ليست بخافية. بل وفي إسلام عمر بن الخطاب وجبير ابن مطعم – رضي الله تعالى عنهما – إذ سمعا بضع آيات فشرح الله قلبيهما بالحق إن في هذا لبلاغاً. وأما الذميون فهم يعلمون صدق القول الرباني الذي أنزل على خير نبي، لكن أشقياءهم كتموا تلك الحقيقة: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (النمل/ 14)، (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة/ 146)، والسعداء منهم فرحوا بنوره، وقاموا بحقه: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ...) (آل عمران/ 113-114)، (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة/ 83). اللّهمّ اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور بصائرنا وأفئدتنا وحبب إلينا رعاية أمانته، واتباع شريعته إنك البر الرحيم، والمستعان على كل عظيم. وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.►   *أستاذ الدراسات الإسلامية جامعة الملك عبدالعزيز - جدة

ارسال التعليق

Top